الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وَإِنْ تَكْ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا أَقُولُ: أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُنْقِصُ أَحَدًا مِنْ أَجْرِ عَمَلِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَلَكِنَّهُ يَزِيدُ لِلْمُحْسِنِ فِي حَسَنَتِهِ، فَإِنْ كَانَتِ الذَّرَّةُ الَّتِي عَمِلَهَا الْعَامِلُ سَيِّئَةً كَانَ جَزَاؤُهَا بِقَدْرِهَا، وَإِنْ كَانَتْ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا لَهُ اللهُ تَعَالَى عَشْرَةَ أَضْعَافٍ أَوْ أَضْعَافًا كَثِيرَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [6: 160]، وَفِي مَعْنَاهَا آيَاتٌ، وَقَالَ: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [2: 245]، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةٌ}، بِرَفْعِ حَسَنَةٍ أَيْ: وَإِنْ تُوجَدْ حَسَنَةٌ يُضَاعِفْهَا، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: {يُضَعِّفْهَا} بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ مِنَ التَّضْعِيفِ وَهُوَ بِمَعْنَى الْمُضَاعَفَةِ، وَرَدُّوا قَوْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ: إِنَّ ضَاعَفَ يَقْتَضِي مِرَارًا كَثِيرَةً وَضَعَّفَ يَقْتَضِي مَرَّتَيْنِ.{وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} يَعْنِي أَنَّ فَضْلَهُ تَعَالَى أَوْسَعُ مِنْ أَنْ يُضَاعِفَ لِلْمُحْسِنِ حَسَنَتَهُ فَقَطْ بِأَلَّا يَكُونَ عَطَاؤُهُ إِلَّا فِي مُقَابَلَةِ الْحَسَنَاتِ، بَلْ هُوَ يَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ مِنْ فَضْلِهِ وَيُعْطِيهِمْ مِنْ لَدُنْهُ أَيْ مِنْ عِنْدِهِ لَا فِي مُقَابَلَةِ حَسَنَاتِهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا أَيْ عَطَاءً كَبِيرًا قَالُوا: إِنَّهُ سَمَّى هَذَا الْعَطَاءَ أَجْرًا، وَهُوَ لَا مُقَابِلَ لَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْأَجْرِ عَلَى الْعَمَلِ فَسُمِّيَ بِاسْمِهِ مِنْ قَبِيلِ مَجَازِ الْمُجَاوَرَةِ، وَلَعَلَّ نُكْتَةَ هَذَا التَّجَوُّزِ هِيَ الْإِيذَانُ بِأَنَّ هَذَا الْعَطَاءَ الْعَظِيمَ لَا يَكُونُ لِغَيْرِ الْمُحْسِنِينَ، فَهُوَ عِلَاوَةٌ عَلَى أُجُورِ أَعْمَالِهِمْ، وَالْعِلَاوَةُ عَلَى الشَّيْءِ تَقْتَضِي وُجُودَ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَلَا مَطْمَعَ فِيهَا لِلْمُسِيئِينَ الَّذِينَ غَلَبَتْ سَيِّئَاتُهُمُ الْمُفْرَدَةُ عَلَى حَسَنَاتِهِمُ الْمُضَاعَفَةِ، فَمَا قَوْلُكَ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ طُمِسَتْ حَسَنَاتُهُمْ فِي ظُلْمَةِ شِرْكِهِمْ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى! وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْأَجْرَ الْعَظِيمَ هُوَ النَّعِيمُ الرُّوحَانِيُّ بِرِضْوَانِ اللهِ الْأَكْبَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ غَيْرَ مَرَّةٍ فَرَاجِعْهُ فِي مَظَانِّهِ.وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ حَذْفُ النُّونِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ تَكُ} فَإِنَّ أَصْلَهَا تَكُنْ.فَحُذِفَتِ النُّونُ لِلتَّخْفِيفِ سَمَاعًا، وَعَلَّلُوهُ بِتَشْبِيهِهَا بِحُرُوفِ الْعِلَّةِ مِنْ حَيْثُ الْغُنَّةِ وَالسُّكُونِ وَلَدُنْ بِمَعْنَى: عِنْدَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ لَدُنْ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْقُرْبِ مِنْ عِنْدَ فَلَا يُقَالُ: لَدَيَّ مَالٌ إِلَّا إِذَا كَانَ حَاضِرًا، وَيُقَالُ: عِنْدِي مَالٌ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا.فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: بَعْدَ مَا جَاءَ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ جَاءَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَعْطُوفَةً بِالْفَاءِ فَهُوَ يَقُولُ: إِذَا كَانَ اللهُ لَا يُضَيِّعُ مِنْ عَمَلِ عَامِلٍ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ النَّاسِ إِذَا جَمَعَهُمُ اللهُ، وَجَاءَ بِالشُّهَدَاءِ عَلَيْهِمْ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ فَمَا مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا وَلَهَا بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ!.هَذِهِ الشَّهَادَةُ هِيَ الَّتِي غَفَلَ عَنْهَا النَّاسُ وَبَكَى لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إِذْ أَمَرَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ بِأَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْقُرْآنِ.هَذِهِ الشَّهَادَةُ يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ مُقَابَلَةِ عَقَائِدِهِمْ، وَأَخْلَاقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ بِعَقَائِدِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَعْمَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ.تُعْرَضُ أَعْمَالُ كُلِّ أُمَّةٍ عَلَى نَبِيِّهَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُسْلِمِينَ وَسَائِرِ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ، فَمَنْ شَهِدَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَعْمَالِهِمْ وَظُهُورِهَا، بِأَنَّهُمْ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ وَعَمِلَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالْعَمَلِ بِهِ فَهُمُ النَّاجُونَ.إِنَّ كُلَّ أُمَّةٍ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ تَدَّعِي اتِّبَاعَ نَبِيِّهَا، وَإِنْ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ مَمْلُوءَةً بِالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالْغِلِّ، وَأَعْمَالُهُمْ كُلُّهَا شُرُورٌ أَوْ مَفَاسِدُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى النَّاسِ، فَهَؤُلَاءِ يَتَبَرَّأُ الْأَنْبِيَاءُ مِنْهُمْ وَإِنِ ادَّعَوْا هُمُ اتِّبَاعَهُمْ وَالِانْتِمَاءَ إِلَيْهِمْ.وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: {عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ شَهَادَةُ خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ عَلَى الْمُرْسَلِينَ قَبْلَهُ فَهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى أُمَمِهِمْ، وَهُوَ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: هِيَ شَهَادَتُهُ عَلَى أُمَّتِهِ وَهَذَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [2: 143]، وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تَكُونُ بِسِيرَتِهَا شَهِيدَةً عَلَى الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَحُجَّةً عَلَيْهَا فِي انْحِرَافِهَا عَنْ هَدْيِ الْمُرْسَلِينَ، وَأَنَّ الرَّسُولَ الْأَعْظَمَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَكُونُ بِسِيرَتِهِ الْعَالِيَةِ وَسُنَّتِهِ الْمُعْتَدِلَةِ حُجَّةً عَلَى الْمُفْرِطِينَ وَالْمُفَرِّطِينَ مِنْ أُمَّتِهُ اتِّبَاعًا لِلْبِدَعِ الطَّارِئَةِ وَالتَّقَالِيدِ الْمُحْدَثَةِ مِنْ بَعْدِهِ، فَرَاجِعْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنَ التَّفْسِيرِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْأُسْتَاذُ فَهُوَ مَا رَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْرَأْ عَلَيَّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي، فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ إِلَخْ، فَقَالَ: حَسْبُكَ الْآنَ، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ فَلَيْتَ شِعْرِي هَلْ يَعْتَبِرُ الْمُسْلِمُونَ بِهَذَا وَهُمُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِمْ كَمَا اعْتَبَرَ الشَّهِيدُ الْأَعْظَمُ فَيَبْكُونَ لِتَذَكُّرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ كَمَا بَكَى، وَيَسْتَعِدُّونَ بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، وَاجْتِنَابِ جَمِيعِ الْبِدَعِ وَالتَّقَالِيدِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي عَهْدِهِ، لِأَنْ يَكُونُوا كَأَصْحَابِهِ أُمَّةً وَسَطًا لَا تَفْرِيطَ عِنْدِهَا فِي الدِّينِ، وَلَا إِفْرَاطَ لَا فِي أُمُورِ الْجَسَدِ وَلَا فِي أُمُورِ الرُّوحِ، أَمْ يَظَلُّونَ سَادِرِينَ فِي غَلْوَائِهِمْ، مُقَلِّدِينَ لِآبَائِهِمْ؟ أَلَا يَعْلَمُونَ كَيْفَ يَكُونُ حَالُ الْكَافِرِينَ وَالْعَاصِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ؟يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ قِيلَ: إِنَّ هَذَا اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ حَالِ الْكَافِرِينَ الَّتِي أُشِيرَ إِلَى شَدَّتِهَا، وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّهُ جَوَابُ فَكَيْفَ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا، وَمَعْنَى تِلْكَ الْآيَةِ: فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ النَّاسِ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ إِلَخْ.وَالْجَوَابُ: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ أَيْ يُحِبُّ وَيَتَمَنَّى الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ فَلَمْ يَتَّبِعُوا مَا جَاءَ بِهِ أَنْ يَصِيرُوا تُرَابًا تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ فَيَكُونُوا وَإِيَّاهَا سَوَاءً كَمَا قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّبَأِ: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [78: 4]، وَقِيلَ: أَنْ يُدْفَنُوا وَتُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ أَوْ تُسَوَّى عَلَيْهِمْ كَمَا تُسَوَّى عَلَى الْمَوْتَى عَادَةً، وَقِيلَ: يَتَمَنَّوْنَ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ لَهُمْ فَيَدْفَعُوهَا فِدْيَةً، فَتَكُونَ مُسَاوِيَةً لَهُمْ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ} [5: 36]، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ {تَسَّوَّى} بِفَتْحِ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ الْمَفْتُوحَةِ عَلَى أَنَّ أَصْلَهَا تَتَسَوَّى فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي السِّينِ لِقُرْبِهَا مِنْهَا فِي الْمَخْرَجِ، وَقَرَأَهَا حَمْزَةُ بِتَخْفِيفِ السِّينِ مَعَ الْإِمَالَةِ بِحَذْفِ تَاءٍ تَتَسَوَّى الثَّانِيَةِ وَهِيَ لُغَةٌ مَشْهُورَةٌ.وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا عَطْفٌ عَلَى يَوَدُّ أَيْ: لَا يَكْتُمُونَ شَيْئًا مِنْ خَبَرِ كُفْرِهِمْ وَلَا سَيِّئَاتِهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِشَهَادَةِ أَنْبِيَائِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا يَنْسُبُونَ إِلَيْهِمْ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ كَفْرٍ وَأَبَاطِيلَ وَبِدَعٍ وَتَقَالِيدَ، قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا} لَيْسَ خَبَرًا مُجَرَّدًا وَإِنَّمَا الْوَاوُ فِيهِ لِلْحَالِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَوَدُّونَ لَوْ يَمُوتُونَ أَوْ يَكُونُونَ تُرَابًا فَتُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ، وَلَا يَكُونُونَ كَتَمُوا اللهَ تَعَالَى وَكَذَبُوا أَمَامَهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِإِنْكَارِ شِرْكِهِمْ وَضَلَالِهِمُ الَّذِي بَيَّنَهُ تَعَالَى مِنْ حَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينِ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [6: 22- 24]، فَهُمْ عِنْدَمَا يَكْذِبُونَ وَيُنْكِرُونَ شِرْكَهُمْ، إِمَّا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ لَيْسَ شِرْكًا، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِشْفَاعٌ وَتَوَسُّلٌ إِلَى اللهِ بِمَنِ اخْتَارَ مِنْ خَلْقِهِ، وَإِمَّا مُكَابِرَةً وَتَوَهُّمًا أَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُمْ وَيَدْرَأُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، عِنْدَ ذَلِكَ يَشْهَدُ عَلَيْهِمُ الْأَنْبِيَاءُ الْمُرْسَلُونَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُتَّبِعِينَ فِيمَا أَحْدَثُوا مِنْ شِرْكِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ شَيْئًا ابْتَدَعُوهُ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ بِقِيَاسِ رَبِّهِمْ عَلَى مُلُوكِهِمُ الظَّالِمِينَ وَأُمَرَائِهِمُ الْمُسْتَبِدِّينَ الَّذِينَ يَتْرُكُونَ عِقَابَ بَعْضِ الْمُسِيئِينَ بِشَفَاعَةِ الْمُقَرَّبِينَ إِلَيْهِمْ مِنْ بِطَانَتِهِمْ وَيُقَرِّبُونَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ التَّقْرِيبَ بِشَفَاعَتِهِمْ أَيْضًا، فَإِذَا شَهِدُوا عَلَيْهِمْ تَمَنَّوْا لَوْ كَانُوا سُوِّيَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ وَمَا افْتَرَوْا ذَلِكَ الْكَذِبَ، وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَصَحَّحَهُ: أَنَّهُمْ إِذَا قَالُوا ذَلِكَ خَتَمَ اللهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَتَشْهَدُ عَلَيْهِمْ جَوَارِحُهُمْ فَيَتَمَنَّوْنَ أَنْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ، وَمَنْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَبَرًا مُجَرَّدًا مَعْطُوفًا عَلَى يَوَدُّ قَالَ: إِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ فِي بَعْضِ مَوَاقِفِ الْقِيَامَةِ، وَيَعْتَرِفُونَ فِي بَعْضِهَا، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ كَذَّبُوا وَكَتَمُوا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمُ اعْتَرَفُوا وَمَا كَذَبُوا بِأَنْ يَكُونَ حَصَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ النَّقِيضَيْنِ فِي وَقْتٍ غَيْرِ الْوَقْتِ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ الْآخَرُ، وَمِثْلُ هَذَا مُشَاهَدٌ فِي مُحَاكَمَةِ الْمُجْرِمِينَ فِي الدُّنْيَا يُنْكِرُونَ ثُمَّ يُقِرُّونَ، وَيُكَذِّبُونَ ثُمَّ يُصَدِّقُونَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتْمَانِ هُنَا كِتْمَانُ الْحَقِّ فِي الدُّنْيَا كَكِتْمَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ صِفَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْبِشَارَاتِ بِهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْحَدِيثَ فِي الْآيَةِ هُوَ الْكَلَامُ، وَذَهَبَ الْبَقَاعِيُّ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ الشَّيْءُ الْمُحْدَثُ، أَوِ الْمُبْتَدَعِ الَّذِي لَمْ يَجِئْ بِهِ رُسُلُهُمْ، قَالَ: أَيْ شَيْئًا أَحْدَثُوهُ، بَلْ يَفْتَضِحُونَ بِسَيِّئِ أَخْبَارِهِمْ، وَيَحْمِلُونَ جَمِيعَ أَوْزَارِهِمْ، جَزَاءً لِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ مِنْ آيَاتِهِ، وَمَا نَصَبَ لِلنَّاسِ مِنْ بَيِّنَاتِهِ. اهـ.
|